مخطوط عربي قديم موجود بصقلية يتكلم عن زراعة النخيل، يعود تاريخه إلى سنة 394 هجرية / 1004 ميلادية
محمد الأنصاري:
تحت رعاية معالي محمد بن نخيرة الظاهري وزير العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف، يُفتتح في المجمع الثقافي في أبو ظبي الاثنين القادم معرض ''الإسلام في صقلية- بستان بين حضارتين'' الذي تنظمه السفارة الإيطالية في الدولة، ويبين هذا المعرض الذي يعتبر الأول من نوعه في الإمارات تأثير الحضارة الإسلامية في العالم الغربي وخصوصاً الجزء الجنوبي من إيطاليا والمتمثل في جزيرة صقلية الإيطالية·
وقال سعادة السفير الإيطالي عن المعرض: ''لقد حرصت السفارة على إقامة هذا المعرض خلال شهر رمضان الكريم لإعطاء الفرصة لأكبر عدد من الأفراد لزيارته، والتعرف على ما يحمل في طياته من معالم ثقافية وتاريخية تبرز تقارب الحضارتين الإيطالية والعربية''، وأشار سعادته إلى الروابط الوطيدة التي تميز التفاهم القائم بين إيطاليا والعالم العربي بحكم التاريخ العريق المحفور على جدران حضارة كل منهما، وأكد السفير الإيطالي على ضرورة إقامة مثل هكذا معارض بين العالم العربي والغرب في هذا الوقت بالذات، وزيادة التبادل والتواصل في المجالات الثقافية والفنية والفكرية باعتبارها لغة حوار حضارية تشيع أجواء السلام بين مختلف الشعوب، وعن أقسام المعرض والمواد التي سيشاهدها الجمهور تحدث السيد ''لورنزو روميتو'' المسؤول الفني للمعرض، حيث أشار إلى الأسلوب المعاصر والفريد الذي سيقدم به المعرض في المجمع الثقافي، باعتباره يقدم الحضارة الإسلامية في صقلية على شكل خيمة إلكترونية كبيرة جداً تسمح للزائر بالمشاركة وجدانيا وعقلياً في الأحداث التي جرت في مختلف أماكن صقلية قبل عدة قرون·
وأضاف ''روميتو'': ''إن معرض الإسلام في صقلية؛ عبارة عن نظام روائي مكوّن من عدة أعمال، كل منها يتمتع باستقلالية، ويختص بسهولة الاتصال والتواصل مع الآخرين، والعمل باللغتين العربية والإيطالية، حيث سيشاهد الجمهور عرض فيديو وفيلم تسجيلي يعرض الوقائع التاريخية المتعلقة بالفتوحات الإسلامية·· كما يقود الجمهور نحو المدخل صوت الشاعر ''أدونيس'' الذي يلقي قصائد لشعراء عرب صقليين في الحديقة التي تمثل مدخل المعرض، كما سيكون هناك بساط كبير على هيئة خريطة صقلية يوضح أسماء الأماكن في الجزيرة وأصلها العربي، وستكون المناظر البانورامية لصقلية داخل خيمة العرض على مدار 360 درجة، وسيستمع الجمهور لإلقاء صوتي بالعربية والإيطالية لتاريخ وجغرافيا تلك الأماكن، بحسب ما جاء ذكرها في كتاب الجغرافي العربي ''الإدريسي''، ومن جهة أخرى سيشاهد زوار المعرض؛ وعلى شاشات كبيرة متقابلة، الشخصية الأسطورية الكوميدية: جحا العربي، ونظيره ''جوفا'' الإيطالي''·
تعددية ثقافية
تتميز صقلية بالتنوع الثقافي الذي نتج عن سعي أقوام وشعوب للسيطرة على الجزيرة المتوسطية الرائعة، فقامت عليها منذ القدم حضارات مختلفة صنعت فسيفساء فنية وثقافية شكّلت عبر مراحل التاريخ صورة وملامح العمران والفن والأدب الصقلي، ففي التاريخ القديم اجتاح البربر جميع أنحاء جنوب أوروبا، ولكنهم لم يستطيعوا بسط نفوذهم على الجزيرة بسبب عدم امتلاكهم لأسطول بحري، واستمرت غزوات الأقوام الرومانية وغيرها على التوالي لصقلية، فمن ''الونداليين'' و''الأستروجوتو'' و''الأدواكرة'' استمر التدفق من الشمال الأوروبي ومن شمال أفريقيا، إلا أن أي من هذه الشعوب والثقافات لم تسطع أن تطبع الجزيرة بطابع خاص بها، واستمرت صقلية بهذه الصبغة الفسيفسائية حتى ظهور الدعوة الإسلامية في أواسط القرن السابع الميلادي·
وفي بداية القرن الثامن للميلاد، أصبحت معظم أجزاء صقلية وجنوب أوروبا تحت سيطرة المسلمين، حيث كان فتح الجزيرة على يد القائد المسلم أسد بن الفرات، وفي عام 831م سقطت ''باليرمو'' أكبر من مدينة في الجزيرة بيد الجيش الإسلامي القادم من شمال أفريقيا، ولم يتم للحكم الإسلامي بسط سيطرته على صقلية إلا في عام 956م، وبحسب اعتراف المؤرخين الأوربيين فإن صقلية بعد هذا التاريخ أضحت واحدة من أهم المناطق المزدهرة في العالم بعد الاتفاق مع حكام الدولة الفاطمية القوية آنذاك على منح شكل من أشكال الحكم الذاتي لأبناء الجزيرة، ووصلت إلى قمة ازدهارها الحضاري في أيام الحاكم أبو الفتوح يوسف الملقب بأمين الدولة·
وتصوّر المنمنمات والجداريات والكتب المزودة بالرسوم التي وصلتنا من سنوات القرنين الثاني والثالث عشر، ازدهار الزراعة والصناعة والحرف والفنون في صقلية، وتظهر التزاوج الرائع بين الحضارتين الإسلامية والغربية، وترك فنانو ذلك العصر رسومات تبين الملامح الخاصة للفن الصقلي، فمن جهة نرى اللوحات بأسلوب المنظور العلمي -الأفق- الغربي وهيئة اللوحة الإسلامية التي تتمتع بإظهار جميع ملامح وشخصيات وأماكن المشهد في خط واحد، وهو من مميزات المدرسة الفنية الإسلامية الرائعة التي تجسد الحالة الصوفية للفن، ويظهر من خلال اللوحات والأيقونات الصقلية والكتب المخطوطة، عودة العديد من أسماء الأماكن الصقلية إلى جذور عربية، وهو ما تؤكد دراسات علماء الآثار·
لوحات إسلامية
وتؤكد الأسماء التي تتداول في صقلية لغاية اليوم؛ الجذور العربية للأماكن من قلاع وأسواق ومناطق وشوراع، ومن هذه الأسماء: منطقة قلعة فهمي
"CALATFIMI"، أبو شامة
"BUSCEMI"، قلعة أبو الثور
"CALTAVTURO"، منطقة سلام "SALEMI".. وغيرها من الأسماء التي ما زالت تكتب بالعربي تاريخ بعض مناطق صقلية، ويمكن فهم تأثر المناطق الصقلية باللغتين العربية والبيزنطية بعد الرجوع إلى علم مصادر الأسماء الذي يفسر الارجاعات التاريخية لها·
وبالعودة إلى اللوحات والرسومات التاريخية المحفوظة في المتاحف الإيطالية والتركية عن الفترة التي حكم بها المسلمون صقلية؛ نجد أن الجزيرة غدت جنة خضراء بفضل إنجازات المسلمين في الزراعة التشجير، وتظهر إحدى الرسومات الملك ''بابور'' وهو يعاين نظام الري في الحديقة الملكية بصقلية وهي محفوظة في متحف فيكتوريا البريطاني، وهذه اللوحة من أجمل اللوحات التي وصلت إلينا من ذلك العصر، بينما تظهر في لوحة أخرى محفوظة في المكتبة الفاتيكانية بروما، العجلة المائية على أحد أنهار صقلية، وهي ما تُعرف في بعض مناطق بلاد الرافدين ''الناعور''·
رحّالة العرب
لقد عرّف العالم أبو عبد الله محمد بن محمد المعروف بالإدريسي بجزيرة صقلية وجغرافيتها بصورة مفصلة، وحين ستتجول عزيزي القارئ في يوم الاثنين المقبل في القاعة الكبرى بالمجمع الثقافي؛ ستشاهد مناطق الجزيرة بحسب ما وصفها الإدريسي في كتابه نزهة المشتاق، وستكون المشاهدة ممتعة بطريقة تزاوج بين نفحات وجماليات الخرائط القديمة برسومها الكلاسيكية، والأسلوب الحديث المتمثل بتكنولوجيا الصورة وأفلام الفيديو التي ستترك للمرء مساحة من التأمل في المقارنة بين الأماكن القديمة وما طرأ عليها من تحديث، ومن حديث الإدريسي نقتطف بعضاً من حديثه عن ''رغوص'' إحدى مناطق صقلية القديمة:
''هي قلعة قديمة منيعة وبلدة شريفة قديمة العمران، أزلية المكان، محدقة بها الأودية والأنهار، كثيرة المطاحن، حسنة الأبنية، واسعة الأفنية، ولها بادية خصيبة، ومزارع زكية رحيبة، وبينها وبين البحر سبعة أميال''·
ولعل التاريخ الإسلامي الحافل برحلات العلماء والرحالة المتعطشين للمغامرة والتعرف على الأماكن الجديدة والمجهولة، ومنها كتاب الإدريسي الذي اعتمدت عليه الشركة الإيطالية المنفذة لهذا المعرض الرائع، يبين البلاغة والروح الأدبية الرائعة في وصف الأماكن وهو ما يميز فن الرحلة وقراءة الأمكنة على الطريقة العربية، ولم يكتفِ ''فاليريو روميتو'' مُعد المادة العلمية للمعرض بكتاب الإدريسي لإعطاء صورة عن التاريخ والفن الإسلامي في صقلية، بل أنه عاد إلى عدة كتب عربية قديمة·
في وصف مدينة ''باليرمو'' عاصمة الجزيرة في جزئها المسلم؛ نرحل في أجواء المعرض الرائع مع كتاب ''مسالك الممالك'' للعلامة ابن حوقل، حيث يصف أرجاء المدينة العامرة وحاراتها وزخارف مساجدها، أما الجزء ''النورمندي'' للمدينة فقد استند أصحاب المعرض على كتاب ''رحلة الكناني'' أبو الحسين بن جبير، وفيه يقول: ''هي بهذه الجزائر أم الحضارة، والجامعة بين الحُسْنين: غضارة ونضارة، فما شئت بها من جمال مَخبر ومَنظر، عتيقة أنيقة، مشرقة مونقة، تطلع بمرأى فتّان، تروق الأبصار بحسن منظرها البارع، قرطبية البنيان، بينما تصف مقتطفات من كتاب ''الروض المعطار'' للحميري منطقة ''أنطالة'' الصقلية·
وبعيداً عن تأثيرات وصراعات انخفاض أسعار البترول وارتفاعه، يبدو أن صقلية قد حجزت مقعداً خارج منظمات النفط العالمية، واكتفت بأن تنتج لنفسها ما يكفيها منه·· ربما بدا هذا الكلام مبهماً أو فيه شيء من السفسطة، ولكنه الحقيقة التاريخية التي تقولها كتب التاريخ قبل خمسة قرون، وبالإضافة إلى النفط فإن صقلية تنتج الذهب والمعادن الأخرى، ففي موسوعة المكتبة العربية الصقلية يقول العذري: ''بها ثلاث آبار يخرج منها من أول الربيع إلى آخره ''زيت النفط''، فينزل رجل في هذه الآبار على درج، ويضع غطاء على رأسه، ويسد منخره، فإن تنفس في أسفله هلك من ساعته·· يغترف ماءها ويجعله في اجانات فما كان منه نفطاً علا، فيجمع ويجعل في قوارير''·
شعر بصوت أدونيس
وللشعر نصيب كبير في معرض ''الإسلام في صقلية''·· فما أن تظهر المقطوعات الشعرية بصورة مترجمة من قبل البروفيسور ''فرانشيسكا ماريا كوارو'' حتى تصدح في جنبات الخيمة الإلكترونية الكبيرة المنصوبة داخل الصالة الكبرى، نبرات عربية أصيلة تطوف بالشعر في عوالم العشق، وقد وفق منظمو المعرض في اختيار الملقي وهو الشاعر العربي أدونيس، حيث سيترنم بقصيدة الشاعر العربي الصقلي علي البلانوبي:
وغزال مشنف قد رثى لي بعد بعدي
لما رأى مالقيت
وقصائد أخرى لشعراء عرب صقليون هم: عبد الرحمن الأطربنشي، ابن حمديس·· وآخرون·
وفي مجال الموسيقى التقليدية الشعبية، تؤكد العديد من الدراسات أوجه التقارب والشبه بين الموسيقى الصقلية وموسيقى بلاد المغرب العربي، حيث سيستمتع جمهور المعرض بمجموعة من المقطوعات الفلكلورية القديمة التي تظهر حالة التزاوج الفني بين الحضارتين الغربية والشرقية، ومن هذه المقطوعات: رقصة السيف، وألحان الأسطنبالي التونسية، ومقطوعات ''الباليتو'' الصقلية·
البساط الطائر·· وجحا
ومن المعروضات الرائعة التي سيشاهدها الجمهور لوحات جميلة لمصلى ''بالاتينا'' الصقلي الذي بناه المهندسون الفرس في صقلية قبل عدة قرون، وقد جهز فريق الشركة المنفذة للمعرض بمعاونة مهندسين إيطاليين ونظرائهم من الأكراد، شيئاً فخماً يعرف بالبساط الطائر، حيث سيرحل الجمهور عبره إلى فنون الشرق والغرب وحكايات ألف ليلة وليلة، وقد رأى المنظمون أن يكون هذا البساط حلقة للتواصل والتعايش الثقافي بين الحضارتين الغربية والشرقية·
وفي ختام الجولة الفنية والتاريخية والأدبية في المعرض، سيشاهد الجمهور في الخيمة المعدة خصيصاً لهذا الأمر؛ شخصية تراثية واحدة باسمين مختلفين: جحا العربي، وجوفا الصقلي، حيث سيتعرف الجمهور العربي والأجنبي على المواقف الطريفة والتي تمر بحياة هذا الرجل الذي يشكل جزءاً من التراث المحكي العالمي، وفي ختام هذه الجولة السريعة التي ألقينا فيها الضوء على بعض أقسام معرض ''الإسلام في صقلية'' في المجمع الثقافي، نتمنى لكم صياماً مقبولاً وأجراً ثابتاً إنشاء الله·
نُشر هذا الخبر بتاريخ:
15.10.2004
:Notizia pubblicata in data
:: الموضوعات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع ::